يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، هو ثاني خلفاء الدولة الأموية، وُلد في عام 26 هـ (647 م) في دمشق، ونشأ في كنف والده معاوية بن أبي سفيان، مؤسس الدولة الأموية. كانت نشأته داخل بيت السلطة والسياسة، مما جعله يتلقى تربية تختلف عن نظرائه من أبناء الصحابة. تربى يزيد في بيئة مليئة بالمكائد السياسية والتخطيط الاستراتيجي، حيث أراد والده تأهيله ليكون خليفة قويًا يضمن استمرار الحكم الأموي.
![]() |
يزيد بن معاوية قراءة تحليلية في شخصيته وحكمه |
كما اهتم والده بإظهاره كقائد مستقبلي أمام القبائل العربية، فجعل منه واليًا على بعض المناطق المهمة مثل البصرة والكوفة لفترات محددة، رغم أن بعض الروايات التاريخية تشير إلى أنه لم يكن يميل إلى حياة التقشف والزهد مثل الصحابة، بل كان يميل إلى حياة اللهو والصيد. وعلى الرغم من ذلك، فإن تربيته العسكرية والسياسية جعلته مؤهلًا لاستلام الحكم بعد والده.
استلامه يزيد بن معاوية الخلافة والجدل حول شرعية حكمه
تولى يزيد الخلافة عام 60 هـ (680 م) بعد وفاة والده معاوية، في خطوة أثارت جدلًا كبيرًا، حيث اعتُبر أول خليفة يُعيَّن بشكل وراثي في الإسلام. واجه معارضة شديدة من بعض الصحابة والتابعين، وكان أبرز المعارضين له الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر. اعتبر هؤلاء أن خلافته لم تأتِ وفقاً لمبدأ الشورى الإسلامي، بل فُرضت فرضًا، ما أدى إلى انقسامات كبيرة داخل الأمة الإسلامية.
كانت قضية انتقال الحكم في الإسلام منذ البداية محل نقاش، فمنذ وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ظل هناك جدل بين فكرة الشورى والانتخاب، وبين توريث الحكم داخل عائلة حاكمة. عندما قام معاوية بتعيين يزيد وليًا للعهد، أحدث ذلك سابقة تاريخية غير مسبوقة، حيث أصبح الحكم يُورث بدلًا من أن يُنتخب الخليفة من قبل أهل الحل والعقد. هذا التغيير في طبيعة الحكم الإسلامي أدى إلى رفض واسع، خصوصًا من قبل أهل المدينة المنورة ومكة.
اعتمد يزيد في تثبيت حكمه على سياسة القوة والهيمنة، فقام بمراسلة زعماء القبائل وكبار الشخصيات الإسلامية لإجبارهم على مبايعته، ولكن رفض بعضهم ذلك بشدة، مما أدى إلى اضطرابات وثورات ضده منذ بداية حكمه.
معركة كربلاء ومقتل الحسين بن علي
تُعد معركة كربلاء من أكثر الأحداث تأثيرًا في التاريخ الإسلامي، حيث وقعت في العاشر من محرم سنة 61 هـ (10 أكتوبر 680 م) بين جيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية وجيش الإمام الحسين بن علي، حفيد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). لم تكن هذه المعركة مجرد صدام عسكري، بل كانت مواجهة بين رؤيتين مختلفتين لمستقبل الأمة الإسلامية.
بدأت القصة عندما قرر الإمام الحسين التوجه إلى الكوفة استجابة لدعوات أهلها الذين أعلنوا ولاءهم له ضد حكم يزيد. ولكن بعد وصول عبيد الله بن زياد والي الكوفة، تغير الموقف، حيث تم اعتقال وملاحقة أنصار الحسين، وأصبح الطريق إلى الكوفة محفوفًا بالمخاطر. أرسل يزيد جيشًا بقيادة عمر بن سعد لمنع الحسين من دخول المدينة، فاضطر الحسين إلى التخييم في كربلاء، حيث تمت محاصرته ومن معه، ومنع الماء عنهم، مما جعل الوضع مأساويًا.
في يوم عاشوراء، اندلعت المعركة، وكانت المواجهة غير متكافئة، حيث كان جيش الحسين لا يتجاوز 72 رجلًا، بينما كان جيش يزيد يفوقهم بالآلاف. رغم الفارق العددي، خاض الحسين وأصحابه قتالًا بطوليًا، لكنهم استشهدوا جميعًا بعد مقاومة عنيفة. كان استشهاد الحسين مأساة كبرى، حيث قُتل هو وأهل بيته وأصحابه بوحشية، وتم قطع رأسه وإرساله إلى والي الكوفة، ومن ثم إلى يزيد في دمشق.
لم تكن معركة كربلاء مجرد حدث عسكري، بل كانت نقطة تحول في التاريخ الإسلامي، حيث أثارت ردود فعل واسعة في أنحاء العالم الإسلامي. أدى مقتل الحسين إلى ثورات متتالية ضد الحكم الأموي، أبرزها ثورة التوابين وثورة المختار الثقفي. كما أصبحت ذكرى عاشوراء مناسبة سنوية يحييها المسلمون الشيعة بالحزن والأسى، فيما رأى المسلمون السنة في الواقعة درسًا حول الظلم والاستبداد.
على المستوى السياسي، ساهمت كربلاء في إضعاف شرعية الحكم الأموي، وأثارت موجة غضب أدت إلى اضطرابات استمرت لعقود. أما على المستوى الديني، فقد أصبحت الواقعة رمزًا للثبات على المبادئ والتضحية في سبيل الحق، وأصبحت قصتها تُروى عبر الأجيال كمثال للصراع بين العدالة والطغيان.
واقعة الحرة وهجومه على المدينة المنورة
في عام 63 هـ (683 م)، اندلعت واحدة من أكثر الفواجع المأساوية في تاريخ الإسلام، وهي "واقعة الحرة"، حيث تمرد أهل المدينة المنورة على حكم يزيد بن معاوية بسبب استيائهم من فساده وظلمه، فأعلنوا خلعهم له. قاد عبد الله بن حنظلة هذا التمرد بعد أن انتشرت أخبار عن تجاوزات يزيد وفساده، مما دفع أهل المدينة إلى طرد الوالي الأموي عثمان بن محمد بن أبي سفيان وأتباعه من المدينة.
ردًا على هذا التمرد، أرسل يزيد جيشًا قوامه آلاف الجنود بقيادة مسلم بن عقبة، وهو قائد عُرف بقسوته. عند وصول الجيش إلى مشارف المدينة، حاول بعض الصحابة وكبار القوم التوسط لتجنب القتال، لكن المفاوضات باءت بالفشل. نشبت معركة دامية بين الطرفين انتهت بانتصار جيش يزيد بعد ثلاثة أيام من القتال الشرس.
ما حدث بعد ذلك كان كارثة إنسانية كبرى، حيث اقتحم جنود يزيد المدينة وأعملوا فيها السيف. سُمح للجيش بنهب المدينة لمدة ثلاثة أيام، وهو ما أدى إلى قتل آلاف من الصحابة وأبنائهم وسبي النساء ونهب الممتلكات. قُتل في هذه المجزرة عدد من كبار الصحابة والتابعين، مما أثار غضب المسلمين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
عُدت هذه الحادثة من أعظم الكوارث التي أصابت المدينة المنورة بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، إذ لم يُعرف قبلها أن تُداس مدينة الرسول بهذا الشكل. وقد وصف المؤرخون هذه الواقعة بأنها وصمة عار في سجل حكم يزيد، حيث تم انتهاك حرمة المدينة، وقتل أهلها، وانتهكت مقدساتها.
تركت واقعة الحرة أثرًا بالغًا على سمعة الدولة الأموية، وولّدت موجة من السخط تجاه يزيد، حيث اعتُبر مسؤولا عن واحدة من أسوأ المجازر في التاريخ الإسلامي. كما أدت هذه الواقعة إلى زيادة المعارضة ضد حكمه، مما ساهم لاحقًا في تصعيد الثورة التي قادها عبد الله بن الزبير في مكة.
حصار مكة ووفاة يزيد بن معاوية
بعد قمع ثورة المدينة، لم يهدأ الغضب الشعبي ضد يزيد، بل انتقلت جذوة الثورة إلى مكة، حيث أعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة للمسلمين واتخذ من مكة مركزًا لحكمه. رفض عبد الله بن الزبير الاعتراف بسلطة يزيد، مما جعل الخليفة الأموي يوجه جيشًا جديدًا لحصار مكة عام 64 هـ (683 م) تحت قيادة الحصين بن نمير.
كان حصار مكة حدثًا مأساويًا آخر في عهد يزيد، إذ استخدم جيشه المنجنيق لقصف المدينة المقدسة، مما أدى إلى تضرر الكعبة المشرفة واحتراق أستارها. أصابت النيران أجزاءً من المسجد الحرام، وهو ما أثار استنكار المسلمين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. استمر الحصار عدة أسابيع، وكان الوضع داخل مكة يزداد سوءًا بسبب شح المياه والطعام.
ولكن، قبل أن يتمكن جيش يزيد من إحكام السيطرة على مكة والقضاء على ثورة ابن الزبير، جاءت الأنباء المفاجئة بوفاة يزيد بن معاوية في شهر ربيع الأول سنة 64 هـ (نوفمبر 683 م) عن عمر يناهز 38 عامًا. أدت وفاة يزيد إلى انسحاب الجيش الأموي من مكة وعودة الحصين بن نمير إلى الشام، مما أعطى عبد الله بن الزبير الفرصة لتعزيز سلطته في الحجاز.
كانت وفاة يزيد غير المتوقعة نقطة تحول كبيرة في التاريخ الإسلامي، إذ تسببت في اضطراب الدولة الأموية وأدت إلى صراع داخلي على الحكم بين بني أمية وخصومهم. لم يتمكن ابنه معاوية بن يزيد من تثبيت حكمه، فاضطربت الدولة الأموية حتى استعادها لاحقًا مروان بن الحكم.
يبقى يزيد بن معاوية أحد أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ الإسلامي، حيث يراه البعض خليفة اجتهد في الحفاظ على الدولة الأموية، بينما يراه آخرون طاغية أضعف الأمة وأدى إلى انقسامات طويلة الأمد. بغض النظر عن الموقف تجاهه، فإن حكمه كان نقطة تحول محورية، أثرت على مسار الدولة الإسلامية بشكل دائم.
ختامًا، يُعد يزيد بن معاوية شخصية تاريخية معقدة لا يمكن الحكم عليها بمعيار واحد، ولكن من المؤكد أن فترة حكمه شهدت أحداثًا كبرى غيرت مجرى التاريخ الإسلامي.